عين في (مديح الطائر) لـ جيسواف ميووش

آخر نشرة أخبار

انفوغراف

افي المحاضرة التي ألقاها ٨-١٢-١٩٨٠ في الاكاديمية السويدية/ستوكهولم بعد منحه جائزة نوبل؛ تحدّث (جيسواف ميووش) بدقّة الساعاتيّ عن مفهوم الواقع، وليس أكثر حذراً من قوله: (لكن ما الواقع؟)..

يطرح (ميووش) في مجموعته الشِعرية (مديح الطائر) -والتي ترجمها عن البولندية وقدّم لها بعناية (هاتف الجنابي)- ثنائية أنّ الواقع (يفرض على الشاعر أن يضعه في كلمات، رغم أنّه لا يطاق)، لذلك فإن الأمر كما بدأ ميووش مطلع قصيدته (جسد) بقوله: (الوضع البشري ليس مجرّد ألم، سوى أنّ للالم قوة علينا ،الافكار الحكيمة تتداعى في حضرته، والسماوات المرصّعة بالنجوم تنطفيء) ، ثم لا ينسى واجبه كشاعر تجاه تفسير ذلك الالم؛ كما ويعطيه سطوته المحقّقة، فيقول في آخر القصيدة ذاتها: ( هذا الجسدُ الهشّ، سريع العطب، هذا الذي سيبقى بعد أن تهجرنا الكلمات.) ، فهو يسلّم بأنها الخلاص الاخير وهي التي من دونها لا يبقى سوى جسد معطوب ، أو ذكرى مثيرة للانتباه لا اكثر، وفسّره في شطر لقصيدته (بعد الثمانين)؛ حين قال: (ماذا يهمّ دبّا محنّطا؛ فيما لو صوّروه ميتا.)!

أؤمن حقا؛ أن الواقع الحقيقي هو ما يشيح المرء وجهه عنه كي لا يتعامل معه، وكلّما ازدادت حسّاسية المرء العاطفية تلك؛ كلّما هُدّد قلبه بأنواع مختلفة من الالم، طعنةٌ من قريب، قُبلة مسمومة، ربتةٌ على كتفٍ بكفّ من مسامير، أو حضنٌ مراوغٌ يستلّ سيف الزيف من غِمد الحقيقة. ستكون محظوظا لو لم تصادف مثل هذا الجبل الجليدي.

ومَن لم يتذوّقِ الحنظل؛ فلا شكّ يدري أنه المعادل العكسي لطعم العسل، لكنْ وقتها ستكون الروحُ مدركةً تماما أنّ هناك طعوما مُرّة لا نقائض لها ولا أشقّاء، مثل طعم السبّابة حين يفوت الاوان، يخيّل لي أنّ ذلك أمرّ الطعوم وأصدقها حالاً، إنّه يتوغل بسرعة الضوء الى داخل النفس ويصبح أحدث مكين في الخارطة الجينية، هذا لا يُنسى مهما تقادم الزمن عليه، فهو يثير الاحتمالات ويؤجّج مناطق الحكمة والطيش ويثبّت حضوره حتى لا يعود المرء بعده كما كان قبله، فقد نصبَ مكيدة لنفسه ثم ساقهُ قلبه ذاته إلى تجريبها.

إن الواقع ذاك لهوَ المنطقة الاكثر ايلاما من بقية المعطيات الحياتية، فاجعة المتمنّي بما يقدّمه الكون من المُتمنّى، لذلك أنا أصدّق ميووش حين قال في

قصيدته (إلى آلن غينسبرغ): (أنا نفسي كان عندي مثل هذا الامل وسعيتُ، سوى أنني شبهُ عارفٍ رأيتُ؛ كيف يتحوّل الرائعُ الى شيء عادي)!