الاتجاهات الاستراتيجية في عام 2024

التواصل الإجتماعي

59,156FansLike
6,273FollowersFollow
5,803FollowersFollow

نشرة الأخبار

مقدمة:

سادت عدة اتجاهات استراتيجية العام 2023 أو تبلورت فيه، وسوف تستمر معنا في العام الجديد، ولكن قد تتغير صيرورة و/أو توجهات بعضها. وتتعلق هذه الاتجاهات بالتغير في النظام الدولي وعملياته الرئيسة، من صراعٍ وتكاملٍ، وطبيعة الفاعلين الدوليين. وتتصل كذلك ببعض الظواهر الدولية المهمة، وعلى رأسها زيادة سباق التسلح العالمي، ارتفاع حدة التنافس حول الذكاء الاصطناعي، وعودة ظاهرة التكالب على إفريقيا، وتطبيع ظاهرة اليمين المتطرف. علاوة على ذلك، شهدت مصادر التهديد العالمي تصاعدًا لإلحاح أزمة تغير المناخ، وتناميًا للهجمات السيبرانية، وتطورًا في استراتيجيات الإرهاب الدولي. وأخيرًا، وعلى عكس التيار الرئيس في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية الدولية، عادت القضايا الأمنية والاستراتيجية إلى قمة أجندة السياسة الدولية.

أولًا- اتجاهات التغير في النظام الدولي وعملياته الرئيسة:

يمثل النظام الدولي إطارًا حاكمًا للسياسة العالمية، ومحددًا رئيسًا للسياسات الخارجية للدول. ومن ثم، فإن تحديد طبيعة النظام الدولي من الأهمية بمكان، ونحن نودع عامًا ونستقبل عامًا جديدًا. والواقع أنّ العالم يشهد منذ سنوات عملية إعادة تشكيل للنظام الدولي أحادي القطبية تبلور منذ انتهاء الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، بدأت بتحوله من طبيعته الأحادية الجامدة إلى الطبيعة الأحادية المرنة (نظام غير متركز القوة) منذ الأزمة الاقتصادية العالمية (2008-2009).

وثمة اتفاق واسع بين الخبراء والممارسين على أنّ النظام الدولي الراهن يتجه إلى التعددية؛ أي أن يكون متعدد الأقطاب، وأن الولايات المتحدة والصين سوف يكونا في مقدمة هذه الأقطاب. بيد أنهم يختلفون فيما بينهم على تحديد الأقطاب الأخرى. فمنهم من يؤكد زيادة فرص روسيا، بعد شراكتها الاستراتيجية مع الصين، لتكون أحد هذه الأقطاب. ومنهم من يشير إلى أن ألمانيا سوف تكون إحدى أركان النظام الدولي قيد التشكيل، ولاسيما بعد زيادة إنفاقها العسكري، وإصدارها أول استراتيجية شاملة للأمن الوطني في يونيو 2023، وتطوير قدراتها العسكرية في ضوء تصورها للتهديد الروسي. ومنهم من يشير إلى فرنسا والمملكة المتحدة؛ كونهما قاسمًا مشتركًا في أي نظامٍ للقوى الكبرى. ومنهم من يضيف الهند والبرازيل. وهناك طائفة أخرى من الخبراء والباحثين يشيرون إلى أن النظام الدولي الجديد سوف يكون ثلاثي القطبية، يتكون من الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي. وهذا الاتجاه نحو التعددية القطبية، أيًّا كان توصيفه، سوف يتعزز في عام 2024.

وبالنسبة للعمليات الرئيسة في النظام الدولي، فقد شهد عام 2023، كما غيره من الأعوام، تدافعًا بين قوى الصراع وقوى التكامل، وسوف يستمر هذا التدافع في العام الجديد، ولكن يُرجح أن يكون لقوى الصراع اليد العليا خصوصًا في ظل اختبار النظام الدولي مرحلة انتقالية عسيرة من نمطٍ قطبي إلى آخر، وفي ظل تخندق قوى التكامل في إطار صراعي بين الشمال العالمي والجنوب العالمي.

ففي العام المنصرم، لاحظنا زيادةً كبيرة في عدد الصراعات الدولية وتصاعدًا ملفتًا في مستواها. فوفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، عاين العالم نحو 183 صراعًا دوليًّا في العام الفائت، وهو أعلى رقم منذ ثلاثة عقود، و28% زيادة في أحداث العنف و14% زيادة في الوفيات مقارنة بالعام السابق عليه.

علاوة على ذلك، تكتسب الصراعات طابعًا ممتدًّا وتأخذ اتجاهًا استنزافيًّا. فالحرب الروسية-الأوكرانية، التي يراها الكثير إحدى تجليات الحرب الباردة بين روسيا والغرب، اقتربت من العامين، ولا يوجد أفق قريب لانتهائها، وتحولت إلى صراع شبه متجمد وحرب استنزاف؛ حيث لا يستطيع أي من الطرفين تحقيق اختراق برغم استمرار القتال.

وبرغم تفاوت نمط ومستوى الصراع الدولي بين الصين والولايات المتحدة، ولاسيما في منطقة الإندوباسيفيك، خلال العام المنصرم من فترةٍ لأخرى، من المتوقع أن يستمر الصراع بينهما، وربما يتحول، كما حذَّر محللون من قبل، إلى حربٍ باردة جديدة، برغم التئام قمة سان فرانسيسكو بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن، والصيني شي جين بينغ، في نوفمبر 2023. ويُعزى ذلك إلى تكثيف الولايات المتحدة وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، واستمرار المناورات العسكرية الأمريكية مع تايوان ودول أخرى حليفة في المنطقة، ومساعي الصين الحثيثة لتعزيز مكانتها الدولية.

ولا تتسع هذه المساحة للتعريج على كل أو حتى أبرز حالات الصراع الدولي. بيد أنّ العام الفائت لم ينقض دون أن يشهد انفجار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في “حرب غزة”، وهي الأكثر دموية وتكلفة بشرية في القرن العشرين كله، وأنْ يضع بذورًا لتجدد الصراع بين الهند وباكستان؛ حيث ألغت الأخيرة الحكم الذاتي “المحدود” لولاية جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة، وأنْ يُغذي الصراع المخيف في بحر الصين الجنوبي، وأنْ يرفع من مستوى الصراع في شبه الجزيرة الكورية.

وبالنسبة لاتجاه التكامل، فقد شهد العام المنصرم جهودًا تكاملية، ولكن حَكمها، بصفة عامة، الانقسام بين الجنوب العالمي والشمال العالمي. فقد انتظم منتدى التعاون الدولي الثالث لمبادرة الحزام والطريق لمناقشة التقدم في مشروعات المبادرة الصينية بعد عشر سنوات من إطلاقها، وطرحت مبادرة منافِسة في قمة العشرين بنيودلهي، وهي الممر الاقتصادي الدولي من الهند إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط. وتم توسيع تجمُّع بريكس، الذي يُقدّم على أنه تكتل للجنوب الشرقي في مواجهة الشمال الغربي؛ ليكون قادرًا على مواجهة نفوذ مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)، وتشييد نظام اقتصادي دولي جديد، وتأسيس عالم متعدد الأقطاب. وبين ذلك، تواترت المحاولات الروسية والصينية لتجميع دول الجنوب العالمي تحت قيادتهما لمواجهة المحاولات الأمريكية والغربية المماثلة.

ولم يشأ عام 2023 أن يتركنا من دون أنْ يسبغ بعض الشرعية على دور طائفة مميزة من الفاعلين من غير الدول في السياسة العالمية، وهي الكيانات ما دون القومية أو الحكومات غير المركزية أو الأقاليم إجمالًا. فقد شهد مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب28″، الذي استضافته دولة الإمارات أواخر العام المنصرم حضورًا غير مسبوق للقادة الإقليميين والمحليين، وعُقدت لأول مرة، قمة العمل المحلي للمناخ COP28 Local Climate Action Summit في إطار مؤتمر الأطراف؛ لتوحيد رؤى القادة الإقليميين والوطنيين لإنشاء نموذج عالمي جديد للعمل المناخي المتكامل بين جميع مستويات الحكومة، شارك فيها أكثر من 450 مسؤولًا محليًّا، بما في ذلك رؤساء أقاليم وبلديات. وقد أسفرت هذه القمة عن إطلاق مبادرة رائدة، أقرتها 62 حكومة حول العالم، تهدف لدعم القادة المحليين والإقليميين في إعداد وتقديم المساهمات المحددة وطنيًّا. ثم أطلقت رئاسة مؤتمر “كوب28” مبادرة “تحالف من أجل الشراكات متعددة المستويات ذات الطموح عالي المستوى Coalition For High Ambition Multilevel Partnerships (CHAMP)؛ لتعزيز التعاون بين الحكومات الوطنية والحكومات المحلية في تحديث مساهماتها المحددة وطنيًّا ليتم تقديمها إلى “كوب30” في البرازيل. وإذا تم تنفيذ مبادرة CHAMP بنجاح، فهذا يعني أنه للمرة الأولى، ستكون هناك مشاركة مباشرة للحكومات المحلية والإقليمية في هذا الخصوص. ولعل ذلك يُعوّض افتقار الأقاليم وشبكاتها العديدة والمتنوعة إلى دور رسمي في مفاوضات المناخ العالمية وفي تنفيذ اتفاقية باريس، وفي السياسة الدولية بصفةٍ عامة، برغم تنامي أنشطتهم وأدوارهم الخارجية. ومن المتوقع أن يشهد العام الجديد مزيدًا من مؤشرات إسباغ الشرعية والتطبيع لظاهرة انخراط الأقاليم أو الكيانات ما دون المستوى الوطني، وهي الظاهرة التي يُطلق عليها “الدبلوماسية الموازية”، ليس فقط في مفاوضات ومنتديات المناخ الدولية، وإنما في السياسة العالمية أيضًا.

ثانيًا- أهم الظواهر الدولية في عام 2023:

لا يتسع المقام هنا لتحليل حالة جميع الظواهر الدولية في عام 2023، واستشراف حركيتها في العام الجديد، وإنما يتم التركيز على تنامي سباق التسلح، وارتفاع حدة التنافس حول الذكاء الاصطناعي، وعودة ظاهرة التكالب على إفريقيا، وتطبيع ظاهرة اليمين المتطرف.

1- سباق التسلح:

شهد العام الماضي ارتفاع معدلات سباق التسلح “التقليدي والنووي”، ولاسيما بين الولايات المتحدة والصين والدول الكبرى المتنافِسة جميعًا، بمعدلات غير مسبوقة منذ أكثر من ثلاثة عقود عندما انتهت الحرب الباردة. وفي هذا الإطار، توقَّع معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري”، في تقرير نشره في يونيو المنصرم، أن تعود ترسانة الأسلحة النووية للارتفاع بعد 32 عامًا من الانخفاض النسبي في إجمالي عدد الرؤوس النووية في العالم. والأرجح أن يكون هذا الارتفاع المتوقع سريعًا، لأن لدى واشنطن وموسكو برامج لتحديث واستبدال الرؤوس النووية المُخزَّنة وأنظمة إطلاقها. كما أن الدول النووية السبع الأخرى تستطيع تطوير منظوماتها.

كما يزداد سباق التسلح التقليدي بمعدلات أسرع. ويُعد دخول ألمانيا واليابان هذا السباق بقوة تحولًا تاريخيًّا لم يكن متصورًا حتى مطلع العام الماضي. فقد أقر برلمان ألمانيا تعديلًا دستوريًّا يتيحُ زيادة قدراتها العسكرية، سعيًا لأن يصبح جيشُها الأكبرَ في حلف “الناتو”. ومضت اليابان في الاتجاه ذاتِه، إذ أصدرت استراتيجية جديدة للأمن القومي (ديسمبر 2022) تحدد الخطوط العامة للسياسة الدفاعية اليابانية على مدار العقد المقبل. وبناءً عليه، أقر برلمانها زيادة الإنفاق الدفاعي من 1% إلى نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يتوافق مع هدف حلفاء اليابان في حلف الناتو بشأن الإنفاق الدفاعي، وخطةً لإعادة بناء قواتها تُقدر قيمتها بأكثر من 300 مليار دولار؛ وهي أكبر ميزانية دفاعية في تاريخها. ومن المقرر أن تُسجل الميزانية الدفاعية اليابانية لعام 2024 زيادةً بنسبة 13% (52.6 مليار دولار) مقارنة بالعام السابق عليه؛ أي ما يساوي تقريبًا حجم الإنفاق العسكري في فرنسا وألمانيا، طبقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. ومن الممكن أن يتجاوز حجم الإنفاق العسكري لليابان في نهاية الأمر كل نظرائه في مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)، باستثناء الولايات المتحدة، بعد أن تعهّد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في العام الماضي بزيادة الإنفاق الدفاعي بنحو 60% على مدار الأعوام الخمسة المقبلة.

وفي المقابل، تعبئ روسيا أقصى إمكاناتها لتعويض الأسلحة المستخدمة في حرب أوكرانيا بعد استنفاذ جزءٍ كبير منها، في الوقت الذي تسعى إلى حل أزمة توقُّف وارداتها من بعض مكونات صناعة هذه الأسلحة، وفي مقدمتها الرقائق الإلكترونية. كما رفعت الصين ميزانيتها العسكرية الجديدة بنسبة 7.1%، لتصبح ثاني أكبر ميزانية في العالم بعد الولايات المتحدة، التي أقرت ميزانية دفاعية قياسية للعام 2024 بلغت نحو 886 مليار دولار في عام 2024، بزيادة 3% عن العام السابق، وليدخل سباق التسلح بين الدولتين مرحلةً جديدة في ظل تصاعد الصراع على النفوذ في شرق آسيا، وتنامي التوتر بشأن قضية تايوان.

وبناء عليه، يبدو أن حالة السلم العالمي في عام 2024 مهدَّدة بفعل ازدياد سباق التسلح، وزيادة حدة الصراع الدولي، وارتفاع مؤشرات الحروب الإقليمية ذات الأبعاد الدولية.

2- ارتفاع حدة التنافس حول الذكاء الاصطناعي:

المُتتبع لسير الأحداث يدرك أن الصراع القائم بين الدول الكبرى متمحورٌ حول التكنولوجيا وامتلاكها والسيطرة عليها، لذا يزداد التوتر والسباق نحو تطوير الترسانات النووية وإدخال أنماط من التحسينات عليها تُعرف بالذكاء الاصطناعي والأسلحة الذكية. وهناك من يعتقد أن علاقات الردع القائمة لا يُمكن المُحافَظة عليها مستقبلًا سوى بالتحكم في هذه التكنولوجيا خصوصًا بين أمريكا والصين وروسيا، وبدرجة أقل باقي الدول مثل اليابان والهند، وبالتالي فإن الدول التي تمتلك مفاتيح التكنولوجيا، هي الأقدر على تطوير مواردها واستخدامها بكفاءةٍ.

ومن المرجح أن يشهد عام 2024 استمرار التنافس بين واشنطن وخصميها الأساسيين روسيا والصين من أجل التفوق في مدخلات الثورة الصناعية الرابعة، التي من بينها، أولًا، تعزيز الابتكار واللجوء إلى الحوسبة والذكاء الاصطناعي، التي تشمل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، والجيل الخامس من الاتصالات، والحوسبة المتطورة، والحوسبة السحابية، وتحليلات البيانات الضخمة. ثانيًا، الاعتماد على أجهزة الاستشعار في المعارك حيث تختلف ساحة المعركة الرقمية عن ساحة أي معركة أخرى، إذ إنها تبنى حاليًّا على الأصول الرقمية وأجهزة الاستشعار، وهو المجال الذي يشتد فيه التنافس بين الصين والولايات المتحدة. ثالثًا، الاستفادة من قوة G5 وتعزيز الأمن السيبراني. فمن المرتقب أن يصبَّ التركيز في ساحة الحرب الرقمية مع الدول المنافسة، على الاستفادة من تقنية الجيل الخامس من الاتصالات، والتقنيات التجارية، ودمجها في المهام والأمن السيبراني. ورابعًا، مشاركة البيانات عبر البحر والجو والفضاء حيث تعتمد رؤية البنتاغون، على مشاركة البيانات عبر البحر والجو والفضاء، لتعزيز عملية صنع القرار وتمكين أي مهمة بنجاح. وخامسًا، ربط الأقمار الاصطناعية بالمقاتلات والصواريخ، ويتم ذلك عبر ربط الأقمار الاصطناعية بالطائرات المقاتلة والصواريخ، ضمن نظام دفاع جوي وصاروخي متكامل من أجل اتخاذ قرارات سلسة في الميدان.

وفي هذا السياق، نشر المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية (ASPI) تقريره السنوي عن التطورات الحاصلة في قطاع التكنولوجيا الحساسة المعنون “السباق العالمي نحو قوة المستقبل”، في مارس 2023. وأشار التقرير إلى أبرز التوجهات المستقبلية في مجال التكنولوجيا الحساسة، ولاسيما تفوق الصين التكنولوجي على الغرب. كما أن الفارق بين الصين وأقرب منافسيها (الولايات المتحدة) يتسع بشكلٍ ملحوظ؛ فقد سجّل التقرير ريادة الصين العالمية في أغلب (أكثر من 85%) التقنيات الحساسة التي يتتبعها المعهد. وتُعد الصين موطنًا لبعض أكبر شركات الذكاء الاصطناعي في العالم، وتتبوّأُ المركز الأول عالميًّا على صعيد براءات الاختراع في هذا المجال. وإضافة إلى التنافس الكبير بين الصين والولايات المتحدة، تحتدم المنافسة بين قوى أخرى، أبرزها الهند والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وألمانيا وإيطاليا، وغيرها.

ومجمل القول هو أنّ عام 2024 سوف يشهد زيادة مستوى التنافس بين أغلب الفاعليين الدوليين في مجال الثورة الصناعية الرابعة، خصوصًا الذكاء الاصطناعي.

3- التكالب على إفريقيا:

برغم أن ظاهرة عودة التكالب على إفريقيا ليست وليدة العام المنتهي، غير أنها قد تصاعدت فيه؛ بسبب ارتباطها بالصراع بين الدول الكبرى المتنافسة عمومًا. ويعكس تقاطر مسؤولي هذه الدول على القارة الإفريقية خلال عام 2023، من وزراء خارجية ورؤساء حكومات ورؤساء دول، نذكر منهم الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ونائب الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، ولقاء الرئيس فلاديمير بوتين القادة الأفارقة في القمة الروسية-الأفريقية في سان بطرسبرغ، أن القارة الإفريقية “غدت فعليًّا ميدانًا لحرب باردة جديدة بين القوى الكبرى من أجل الهيمنة والنفوذ والمصالح، فضلًا عن التكالب على مواردها وأسواقها.

وتشهد القارة منافسة اقتصادية واستراتيجية حادة بين القوى الكبرى؛ خصوصًا الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، بل والقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل. ذلك أن إفريقيا تُعدُّ من أكثر الأسواق الناشئة الواعدة للاستثمارات الخارجية، حيث يبلغ حجم سوقها 1.2 مليار نسمة، إضافة إلى غناها بالموارد الطبيعية، خصوصًا النفط واليورانيوم والبوكسيت والذهب والبلاتين والماس، إضافة إلى الموارد الزراعية. دون الحديث عن أهمية القارة السمراء في الاستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى.

ويُتوقع أنْ تستمر ظاهرة التكالب على إفريقيا من جانب القوى الكبرى على وجه الخصوص، وأن تكتسب زخمًا في العام الجديد.

4- تطبيع ظاهرة اليمين المتطرف:

تُعدُّ ظاهرة تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا ظاهرةً قديمةً جديدة، زاد تناميها خلال العقدين الفائت والراهن، وسلطت عدة حوادث – مثل إحراق نسخ من القرآن الكريم في بعض البلدان الأوروبية، والسلوكيات العنصرية تجاه اللاجئين والمقيمين الأجانب والمواطنين من خلفياتٍ غير أوروبية – وقعت في العام الفائت الضوء على هذه الظاهرة. والواقع أنّ تصاعد اليمين المتطرف، فكرًا وحركات، لا يقتصر على القارة الأوروبية وحدها، وإنّما غدت ظاهرة عالمية. ولكن شهد عام 2023 تنامي الاتجاه نحو تطبيع الظاهرة وتحوُّلها إلى التيار الرئيس بل وتمتُّعها بالجدارة والتقدير في أوروبا. ومن أهم مؤشرات التطبيع: الإنجازات الانتخابية التي حققتها أحزاب اليمين المتطرف في عددٍ من الدول الأوروبية، والتحالفات الانتخابية بين أحزاب اليمين المتطرف وأحزاب يمين ويسار الوسط. وعلى مستوى الممارسة السياسية، تتضح أهم تجليات ظاهرة التطبيع في انخراط اليمين المتطرف في التظاهرات والاحتجاجات والفعَّاليات المختلفة على المستويين الوطني والأوروبي كمشاركين ومنظمين وقادة رأي عام، وفي تبنّي بعض رؤاهم من جانب أحزاب التيار الرئيس ووسائل الإعلام السائدة، التقليدية منها والجديدة، وترجمة بعض تصوراتهم السياسية بواسطة الحكومات لسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف، والحدّ من سيطرته على المزاج العام الأوروبي. وثمة مؤشر آخر على تطبيع اليمين المتطرف يتمثل في تبلور حركة عبر قومية لقواه عبر أوروبا. وقد باتت القضايا التي تنبع من أيديولوجية اليمين المتطرف محور النقاش العام في أوروبا، وعلى رأسها الهجرة، ورهاب الأجانب، ومكافحة التعددية الثقافية، ونقد الإسلام و”الإرهاب الإسلامي”، وتعزيز الهوية، ومستقبل التكامل الأوروبي.

والخلاصة هي أن اتجاه تطبيع اليمين المتطرف في أوروبا، وربما خارجها، سوف يترسخ في العام الجديد، بما لذلك من تداعياتٍ على السياسة الأوروبية والدولية.

ثالثًا- أهم التهديدات الدولية:

شهدت مصادر التهديد العالمي زيادة في إلحاح أزمة تغير المناخ، وتناميًا للهجمات السيبرانية، وتصاعدًا للتهديدات النووية، وتطورًا في استراتيجيات الإرهاب الدولي.

1- التهديدات البيئية:

تُعدُّ أزمة تغيُّر المناخ واحدة من أكبر مُهددات الأمن العالمي بالمعنى الواسع؛ نظرًا لما تتضمنه من مخاطر اقتصادية ومجتمعية وبيئية واجتماعية وصحية وسياسية بل وجيوسياسية. كما تُعدُّ أزمة تغير المناخ أكثر الأزمات المركّبة Polycrises التي يواجهها البشر في القرن الحالي إلحاحًا؛ حيث تتراكم تأثيراتها وتتزامن مع أزماتٍ أخرى كثيرة، في مجالات الاقتصاد والموارد الطبيعية والصراعات بين الدول وداخلها وسلاسل التوريد، وتتفاعل فيما بينها بحيث يزيد أثرها المجمّع عن مجموع تأثير كل منها منفردة.

وكانت خلاصة النتائج التي توصلت إليها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) جِدَّ متشائمة وتحذيرية: فالموقف رهيب، ونافذة الفرصة للحفاظ على مناخ ملائم تتضاءل. ففي نوفمبر 2023، وقبل التئام مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في دبي (30 نوفمبر- 14ديسمبر 2023)، أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تقريرًا يلخّص أعمالها لتسع سنوات، حذّر من أن الاحترار العالمي الناجم عن النشاط البشري سيصل إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، ابتداءً من السنوات 2030-2035. وشهد العالم في 2023 موجة حرٍّ قاسية، وارتفاع درجة حرارة الأرض لمستوى قياسي في عدة مناطق من العالم ليصبح ذلك العام هو الأكثر سخونة على الأرض منذ نحو 125 ألف سنة، الأمر الذي أدى إلى توحش الظواهر الطبيعية وحدوث الإعصار والفيضانات وحرائق الغابات الضخمة. وفي هذا الإطار حذّرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ من أنّ ارتفاعات درجة الحرارة تلك مصحوبة بأحداث متطرفة مدمرة من شأنها أن تكون مجرد “بداية وديعة” لكارثة مستقبلية أكبر.

ولذلك، اكتسب مؤتمر “كوب28” في دبي أهمية فائقة. فقد تم إجراء أول تقييم عالمي على الإطلاق لاتفاق باريس؛ وهو ما يعزز الاتجاه العالمي العام نحو مستقبل أخضر ومنخفض الكربون. ثم إنّ “اتفاق الإمارات للعمل المناخي” الذي توافقت عليه الأطراف يُعد تاريخيًّا ويبشر بالحدّ من ارتفاع درجة حرارة الكوكب عن مستوى 1.5 درجة مئوية، ويقدّم اتجاهًا عامًّا للمرحلة التالية من العمل المناخي العالمي. ويقضي هذا الاتفاق بالتحول نحو التخلي التدريجي عن الوقود الأحفوري لتحقيق الحياد الكربوني عام 2030 وزيادة الطاقة المتجددة بمقدار ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030. كما تم إقرار صندوق التمويل المناخي (صندوق الخسائر والأضرار سابقًا) لتعويض الدول الفقيرة والضعيفة الأكثر تضررًا من هذه التداعيات.

ولكن إذا لم يتم تنفيذ الالتزامات في اتفاق الإمارات، والتعهدات التي أعلن عنها الأطراف في مؤتمر “كوب28″، فقد يشهد عام 2024 مزيدًا من الظواهر الطبيعية القاسية، مثل ارتفاع درجة الحرارة، وزيادة سرعة ذوبان القطب الشمالي، وما يرتبط بها من ظواهر بيئية متطرفة ومدمرة.

2- الهجمات السيبرانية: شهد العام المنصرم تصاعدًا في عدد الهجمات السيبرانية وكثافتها بفعل، ضمن عوامل أخرى، تزايد أعداد الصراعات الدولية وتمددها، ولاسيما الحرب في أوكرانيا والصراع الروسي-الغربي والصراع الصيني-الأمريكي. ومن أهم أنماط الهجمات التي يشهدها الفضاء السيبراني: الجرائم السيبرانية، والتجسس السيبراني أو الهجمات السيبرانية على المؤسسات الحكومية ومواقعها الإلكترونية، والحروب السيبرانية والهجمات على البنية الحيوية والإرهاب السيبراني.

ومن المتوقع أن يزداد اتجاه تنامي الهجمات السيبرانية في عام 2024. وثمة اتجاه أخذ في التبلور في العام المنصرم، وهو تحويل قضية التهديدات السيبرانية إلى قضية أمن قومي. ومن المرجح ترسيخ هذا الاتجاه في العام الجديد.

2- التهديدات النووية:

شهد العالم بعد الحرب الباردة كثيرًا من المتغيرات السياسية والأمنية، وربما بات العالم يدرك مخاطر تهديدات الأسلحة النووية أكثر من السابق، عقِب الكوارث النووية التي شهدها العالم في زمن الحرب العالمية الثانية. وما يجري الآن من تطورات في مجال الأمن والدفاع تزامنًا مع حرب أوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتجارب النووية لكوريا الشمالية، واستمرار البرنامج النووي الإيراني، وسباق التسلح النووي الصيني الأمريكي، يؤكد أن العالم أصبح على حافة حرب نووية، وهذا ما عكسته تصريحات كبار المسؤولين الروس والأمريكيين والصينيين.

وعقِب اندلاع حرب أوكرانيا خلال شهر فبراير 2022، غيرت الولايات المتحدة خاصة استراتيجيتها النووية، وكذلك انسحبت من بعض هذه الاتفاقيات التي كانت تنظم العلاقة بين القوى النووية. كما أنّ روسيا هي الأخرى انسحبت نهائيًّا ورسميًّا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، المبرمة عام 1990. كما ألغت تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وقبل ذلك علّقت مشاركتها في معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية (نيو ستارت)؛ الأمر الذي يعكس مدى تدهور البيئة الجيوسياسية وحالة العداء الواضح التي تتسم بها علاقات موسكو مع القوى الغربية على مختلف الصُّعُد. كما أن لهذه الانسحابات بدون شك تداعيات وانعكاسات خطيرة على الأمن الدولي. إن احتمالية إلغاء من معاهدات ثنائية ما بين روسيا وأمريكا في ظل زيادة التوترات وإلغاء المعاهدات بين الطرفين، يضع دول أوروبا في وضع أمني حرج، في وقت تعتمد فيه أوروبا بشكل كلي على المظلة النووية الأمريكية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شهد عام 2023 اتهامات أمريكية صينية متبادلة حول تطوُّر قدرات كليهما النووية. حيث أشارت الصين إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثّل أكبر تهديد نووي في العالم، وتلجأ إلى أي وسيلة للحفاظ على هيمنتها، وذلك بعدما أعربت الولايات المتحدة عن قلقها بشأن تطوُّر القدرات النووية العسكرية للصين. وفي هذا السياق، أظهرت دراسة قدمتها الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية “ICAN”، ومقرها جنيف، أنّ الإنفاق على الأسلحة النووية ارتفع من 70.2 مليار دولار عام 2020 إلى 82.9 مليار عام 2022. وتقف الولايات المتحدة على رأس هرم الدول المنفقة، إذ بلغ حجم هذا الإنفاق العام الماضي 43.7 مليار دولار، أي أكثر بأربعة مليارات ممّا تنفقه كل الدول النووية الأخرى مجتمعة.

كما أن العالم يشهد تهديدًا أكبر للأمن الدولي وللبشرية، بسبب احتمالات استخدام السلاح النووي في الصراعات الدائرة الآن، وهذا التهديد يبدو أكثر وضوحًا من خلال تنفيذ مناورات نووية من قبل كلّ موسكو وواشنطن، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نشر أسلحة نووية “تكتيكية” على الأراضي البيلاروسية، ودعوة وزير التراث الإسرائيلي، عميحاى إلياهو، إلى حسم الحرب على غزة عبر استخدام قنبلة نووية لإبادة الفلسطينيين ومن بحوزتهم من الأسرى الإسرائيليين.

وخلاصة القول هي أنّ من المرجح أن يشهد عام 2024 مزيدًا من الانفاق الدولي على تطوير القدرات النووية، خصوصًا من قبل الدول النووية الخمس الكبرى، مع استمرار إيران وكوريا الشمالية في تطوير برامجهما النووية.

3- الإرهاب الدولي:

. بالنسبة لتهديدات الإرهاب الدولي، فإن أهم ما جرى رصده في عام 2023 من اتجاهات يتلخص في تصاعد التنافس بين تنظيمي القاعدة وداعش على صدارة المشهد الجهادي العالمي، والتحوّل اللافت في عمليات التنظيمات الإرهابية من الهجمات التقليدية إلى الهجمات واسعة النطاق؛ وهو ما يعنى التحول من الكم إلى الكيف في الهجمات؛ نتيجة تطوير عدد من التنظيمات الإرهابية لقدراتها العسكرية، عن طريق استخدام الأسلحة الحديثة والطائرات المسيّرة.

علاوة على ذلك، لوحظت مواصلة التنظيمات الإرهابية، خصوصًا في قارة إفريقيا، التمدد والانتشار وتعزيز النفوذ والسيطرة على مصادر التمويل، واستمرار اعتماد العديد من هذه التنظيمات على عمليات السلب والنهب والاختطاف وتجارة البشر والتهريب عبر الحدود كمصادر للتمويل. كما لوحظ أن مبدأ “أولوية قتال العدو القريب” أصبح يجبُّ ما عداه؛ أي قتال العدو البعيد. وهذا ما يتضح من استمرار استهداف معظم التنظيمات الإرهابية للقوات العسكرية والعناصر الأمنية في المناطق التي تنشط فيها.

ويرجَّح أن تستمر اتجاهات الإرهاب الدولي المذكورة آنفًا في عام 2024.

خاتمة

في هذه الورقة، تم استقراء أهم الاتجاهات الاستراتيجية التي تبلورت أو ترسخت في العام المنتهي، واستشراف مستقبلها في عام 2024. وتتلخص هذه الاتجاهات في الاتجاه إلى التعددية القطبية في النظام الدولي، وزيادة حجم ومستوى الصراع الدولي، بل وتأطُّر محاولات التكامل الدولي في إطار التنافس بين الجنوب العالمي والشمال العالمي، وإسباغ الشرعية والتطبيع على انخراط الأقاليم أو الكيانات ما دون المستوى الوطني في السياسة العالمية، وتنامي سباق التسلح، وارتفاع حدة التنافس حول الذكاء الاصطناعي، وعودة ظاهرة التكالب على إفريقيا، وتطبيع ظاهرة اليمين المتطرف. كما شهدت مصادر التهديد العالمي زيادة في إلحاح أزمة تغير المناخ، وتناميًا للهجمات السيبرانية، وتصاعدًا للتهديدات النووية، وتطورًا في استراتيجيات الإرهاب الدولي.

وتشير هذه الاتجاهات أو أغلبها إلى عودة القضايا الأمنية والاستراتيجية إلى قمة أجندة السياسة الدولية، وهي القضايا التي يُطلق عليها بعض منظري العلاقات الدولية قضايا السياسة العليا؛ أي القضايا المتعلقة بالأمن القومي للدولة ومكانتها الدولية. وذلك برغم وجود رؤية تقليدية بين الدارسين والممارسين على السواء تتعلق بتفوق القضايا الاقتصادية على ما عداها في عالم ما بعد الحرب الباردة.

ومن المرجح أن تستمر القضايا الأمنية والاستراتيجية في تصدّرها كلّ أنماط القضايا في العام الجديد.

المصدر : تريندز للبحوث والاستشارات