التغير المناخي والأمن المائي

التواصل الإجتماعي

59,156FansLike
6,273FollowersFollow
5,803FollowersFollow

نشرة الأخبار

مقدمة
إن أمن المياه يُعدّ ركيـزة أساسية في حياة البشرية جمعاء، ومؤخرًا زاد الحديث حول خطورة إهمال هذا الموضوع؛ نظرًا للتداعيات الكارثية التي قد تبـرز من انعدام الأمن المائي، فعلى سبيل المثال، يعيش اليوم 3 من كل 4 أشخاص في بلدان تعاني انعدام الأمن المائي، والعديد من البشر يموتون جراء نقص مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي والنظافة الصـحية، مقارنة بالكوارث المتعلقة بالمياه، وفقًا لتقييم الأمم المتحدة العالمي لأمن المياه[1]. بعبارة أخرى، يهدد التغيّـرُ المناخي الأمنَ المائي؛ فَتَقَلُّبُ المناخ والظواهر الجوية القاسية، قد يؤديان إلى انخفاض كبير في كمية ونوعية الموارد المائية. ووفقًا لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّـر المناخ (IPCC) الصادر في عام 2022، من المتوقَّع أن يؤدي التغيّـر المناخي إلى تقليل موارد المياه السطحية والجوفية غيـر المتجددة بشكل كبيـر في معظم المناطق شبه الاستوائية الجافة، وتكثيف المنافسة على المياه بين مختلف القطاعات. بالإضافة إلى ذلك، مع الزيادة السريعة في متوسط درجات الحرارة العالمية، سيصبح الأمن المائي في المستقبل أكثر عُرضةً للخطر في بقاع متعددة من العالم؛ لذلك باتت إشكالية معالجة آثار التغيّـر المناخي على الأمن المائي من خلال تنفيذ استراتيجيات التكيّف للتخفيف من الضرر، أولوية قصوى.
تأسيسًا على ما تقدّم، تناقش هذه الدراسة إشكالية رئيسية تتمثل في مسألة آثار التغيّـر المناخي المهدِّدَة للأمن المائي، وتطرح تساؤلًا حول ماهية التغييـر الذي يتعين على البشر اتباعه لتحسين سلوكياتهم في التعامل مع البيئة، فإشكالية الأمن المائي تتطلّب إحداث تغييـر جوهري في أنماط الحياة المُعاشة، لتكون المحصلة تراجع معدل انبعاثات غازات الدفيئة. كما تسلّط الدراسة الضوء على تهديدات الأمن المائي، وتحدد مدى قدرة السكان على حماية الوصول المستدام إلى كميات كافية مقبولة من الموارد المائية، ومدى تداعيات التغيّر المناخي على سُبل العيش ورفاهية الإنسان، مع التطرق إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ بغية الوصول إلى الحماية ضد التلوث الناجم عن المياه والكوارث المتعلقة بالمياه، والحفاظ على النُّظُم الإيكولوجية في مناخ يسوده السلام والاستقرار السياسي.
أولًا: تأثير التغيّر المناخي على الأمن المائي
يشهد العالم في الوقت الراهن العديد من التهديدات الناجمة عن التغيُّـر المناخي، فقد تأثرت دول عدة بزيادة الانبعاثات الكربونية، كما أن مناطق كثيـرة لا تزال عُرضة للتأثر على نحوٍ يُنذر بحدوث عواقب وخيمة. جاء ذلك في ظل الضغط الاقتصادي بسبب الزيادة الملحوظة في معدل النمو السكاني العالمي، وما تَبع ذلك من تأثير على الموارد الطبيعية المتاحة؛ خصوصًا مع زيادة أنماط الاستهلاك والإنتاج في المجال الاقتصادي على مستوى العالم.
على هذا النحو، كان لزامًا على الاقتصادات العالمية اعتماد نهـج بديل فيما يتعلق بالممارسات الاقتصادية المتَّبَعة بشكل عام، وذلك من خلال ضرورة مراعاة الجوانب الاجتماعية والبيئية لِـمَا لها من تأثيرات مهمة في هذا الصدد. ويتمحور هذا النهج حول دعم القطاع الخاص على نحوٍ يمكِّنه من العمل وفق إطار التنمية المستدامة باعتبارها جزءًا محوريًّا ضمن خطة النمو الاقتصادي، التـي تستهدف بالأساس التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
ويتسبب النمو السكاني بوتيرة متسارعة وما يصـحبه من تغيُّـر مناخي حادّ، بالعديد من التأثيرات السلبية على النمو الاقتصادي؛ وذلك لما يمثّله من تهديد مباشر لقطاعات رئيسية، مثل: الصـحة البيئية، والرعاية الاجتماعية، ويمكن لهذه الأزمات أن تتفاقم إذا لم تُتّخذ الإجراءات اللازمة والتدابير الكافية لمواجهتها.
ووفقًا لـ “إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة” (UNDESA)، فمن المتوقَّع بحلول عام 2050 أن يبلغ عدد سكان العالم 9.7 مليارات نسمة، وبالتالي سنواجه معاناة عدم توافق بين النمو السكاني وكمية الموارد المتاحة؛ حيث تؤدي الزيادة في عدد السكان إلى الارتفاع المُفرِط في الطلب على الموارد الطبيعية، وتزداد الحاجة إلى التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج؛ بهدف تلبية الحاجات الأساسية للأفراد[2]. بَيْدَ أن زيادة معدل الإنتاج مصـحوبًا بنقص الوعي البيئـي وتجاهُل أسس الاستدامة، تسبَّبت كلها في جعل البشرية في نهاية المطاف عُرضةً بشكل خاص للتأثيرات السلبية الناجمة عن التغيُّـرات البيئية، فضلًا عن الاستنزاف المتسارع لرأس المال الطبيعي[3].
وفي الوقت نفسه، فإن جميع المناطق لديها بلدان ذات مستويات منخفضة من الأمن المائي؛ لذلك تواجه البلدان الأقل نموًّا والدول الجزرية الصغيرة النامية، على وجه الخصوص، مستويات حرجة من الأمن المائي؛ بسبب مجموعة من العوامل المركبة. وتعاني 23 دولة، منها 16 دولة من الدول الأقل نموًّا، و7 من الدول الجزرية الصغيرة النامية- انعدام الأمن المائي بشكل خطيـر؛ من بينها: جزر سليمان، وإريتريا، والسودان، وإثيوبيا، وأفغانستان، وجيبوتي، وهايتي، والصومال، وباكستان. في حين تتمتع 33 دولة من ثلاث مناطق جغرافيّة، بالأمن المائي[4]، وتأتي السويد كأكثر الدول أمانًا بالمياه، إلى جانب دول أوروبية أخرى، وبعض الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادي، ومن الأمريكتين تأتي كندا والولايات المتحدة الأمريكية اللتان انضمتا إلى مجموعة الأمن المائي.
إن وفرة المياه لا تضمن بالضرورة الأمنَ المائي؛ حيث تعاني بلدان عديدة في أفريقيا وآسيا والمحيط الهادي والأمريكتين -ذات موارد المياه العذبة الوفيرة- معدلاتٍ عاليةً من الوَفَيَات الناجمة عن المياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية؛ بسبب محدودية الوصول إلى المياه والصرف الصحي الآمن، وضعف جودة المياه ذات القيمة الاقتصادية المنخفضة، إلى جانب الخسائر الاقتصادية المرتفعة المحتمَلة جرّاء الفيضانات أو الجفاف[5].
وتشير تقديرات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) إلى أن 3.6 مليارات شخص في جميع أنحاء العالم يعيشون في مناطق تَنْدُر فيها المياه لمدة شهر واحد على الأقل في السنة، لكن هذا الرقم قد يصل إلى 4.8 أو 5.7 مليارات بحلول عام 2050، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة حول تنمية المياه في العالم. وبالتالي فإن المياه مورد نادر يتأثر بتغيّـر المناخ بشكل جارف [6]. ووفقًا لتصريحات “اليونيسف”، فإن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يجذب أيضًا مسبِّبات الأمراض الفتاكة، مثل الكوليرا أو حمى التيفويد، إلى مصادر المياه العذبة؛ الأمر الذي يجعل استهلاك المياه يشكّل خطرًا على الأفراد. ويوضح الشكل رقم (1) والشكل رقم (2) آثار التغيُّر المناخي في العديد من النُّظُم البيئية والبشرية عالميًّا.

الشكل (1) آثار التغيُّر المناخي في العديد من النُّظُم البيئية

 

الشكل (2) أثر التغيُّر المناخي على النُّظُم البشرية

 

لا يزال الوصول إلى مياه الشرب والصرف الصحي، المُدارة بأمان، حلمًا بعيد المنال لأكثـر من نصف سكان العالم. وإن أكثـر من 70% (ما يقرب من 5.5 مليارات) إنسان لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، وتستحوذ القارة الأفريقية على أدنى مستويات الوصول؛ حيث تصل نسبة السكان الذين يحصلون على مياه صالحة للشرب إلى 15% فقط من سكان المنطقة (EPA, 2023)[7].
وتعاني أفريقيا أدنى مستويات خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية على مستوى العالم، الأمر الذي يسهم في انخفاض مستويات الأمن المائي في المنطقة. وهناك نحو 31% (أكثـر من 411 مليون نسمة) من السكان في 54 دولة أفريقية، بما في ذلك 33 من الدول الأقل نموًّا، و6 من الدول الجزرية الصغيرة النامية، لا يحصلون على خدمات مياه الشرب الأساسية. فقط 201 مليون نسمة (15%) يحصلون على مياه الشرب المدارة بأمان. وفي حالة خدمات الصرف الصحي، لا يزال 1.1 مليار نسمة (82%) يعيشون دون الوصول إلى خدمات الصرف الصحي المدارة بأمان[8].
ونتيجة لذلك، يموت عدد أكبـر من السكان جرّاء نقص وتردّي خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية على مستوى العالم، وهم أكثـر من أولئك الذين لَقوا حتفهم في الكوارث المتعلقة بالمياه (كما يوضـح الشكل رقم 3). وما يزيد الأمر سوءًا، هو عدم وجود تحسُّن ملحوظ في هذا المجال، فقد شهد عام 2019 زيادة في معدلات الوفيات المرتبطة بالمياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية في 164 دولة، مقارنة بتقديرات منظمة الصـحة العالمية لعام 2016.

الشكل (3) الدرجات الوطنية للصحة الجيدة مشار إليها بالوَفَيات الناجمة عن المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية

 


وبالانتقال إلى تأثير آخر للتغيّـر المناخي على الأمن المائي، نجد الفيضانات، التي ضاعفت عدد البلدان المُعرَّضة لخطر الفيضانات والجفاف، وهذا من التحديات التـي تهدد سلامتها الاقتصادية. وبحسب المنطقة، يوجد في أفريقيا أكبـر عدد من البلدان المعرَّضة بشدة لخطر الفيضانات والجفاف، بينما تشهد أيضًا نموًّا سكانيًّا متسارعًا وتحضُّرًا وتصنيعًا، إلى جانب ضعف البنية التحتية والقدرة على إدارة تأثير الكوارث المتعلقة بالمياه، الأمر الذي يزيد من انعدام الأمن المائي، ويوضح الشكل رقم (4) التغيّرات المتوقَّعة خلال الفترة 2071-2100.
وعليه، يمكن أن يؤدي التغيّر المناخي إلى تفاقم الاتجاهات المُقلِقة، مثل أزمات المهاجرين[9]؛ حيث يَفرُّ الأفراد من المناطق التي تتعرض بشكل متزايد للكوارث الطبيعية التي تتفاقم بسبب التغير المناخي وارتفاع مستويات سطح البحر، وتكرار الأعاصير القوية، والجفاف الذي يهدد إمدادات المياه العذبة؛ لذا فمن المتوقَّع أن يهاجر نحو 20 مليون شخص من منازلهم إلى مناطق جديدة، جرّاء محدودية الموارد الطبيعية، مثل مياه الشرب، والندرة المائية التي تَعُمّ مناطق عديدة من العالم، والتهديدات المتوقَّعة للمحاصيل الزراعية والماشية[10].

الشكل (4) التغيّرات المتوقَّعة في فيضانات الأنهار في الفترة 2071-2100 مقارنة بالفترة 1970-2000

في هذا الصدد، أدرج التقرير الصادر عن جمعية “كريستيان إيد” بالمملكة المتحدة، والمعنون بـ “حساب التكلفة لعام 2022: عام من انهيار المناخ”، لأول مرة أكثـر 10 كوارث مناخية بالغة التكلفة في عام 2022. ووفقًا للتقرير، يمثّل الحد الأدنى البالغ 3 مليارات دولار أمريكي[11] تصاعدًا واضـحًا عن تقرير عام 2021، الذي ذكر 10 كوارث بلغت تكلفتها نحو 1.5 مليار دولار أمريكي أو أكثر[12].
وأشار التقرير إلى أن طريقة تصنيف الكوارث -التي تركز عادةً على خسائر التأمين- تميل بشكل غيـر متناسب إلى تسليط الضوء على الأحداث في البلدان الأكثـر ثراءً؛ حيث دائمًا ما تكون التأثيرات الاقتصادية أعلى من حيث القيمة المطلقَة في البلدان ذات الدخل المرتفع، فالقيمة الاقتصادية للبنية التحتية والمنازل تميل إلى الارتفاع، وتكاليف المعيشة أكبـر وتتم تغطية المزيد من خلال التأمين، وعادة ما يكون عدد الوفيات أعلى في البلدان الفقيرة.
على سبيل المثال، كانت فيضانات باكستان سادس أعلى حدث في الخسائر “ماليًّا” في القائمة، وكانت أيضًا الكارثة ذات التكلفة البشرية الأعلى، وذلك بحسب ما أشارت إليه صـحيفة الجارديان البريطانية، فقد أسفرت الفيضانات عن مقتل 1739 شخصًا وتشريد 7 ملايين[13].

أكثر 10 كوارث مناخية تكلفةً في عام 2022

 


وبالتركيز على عامل ثالث للتغيّر المناخي، يتجسد تكثيف الدورة الهيدرولوجية المُنبثقة من فعل الإنسان، الذي يكبِّد الأمن المائي خسائر مادية، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة، فهناك نحو نصف مليار شـخص يعيشون في مناطق رطبة بشكل غيـر مألوف، كما ازدادت كثافة هطول الأمطار الغزيرة في العديد من المناطق منذ خمسينيات القرن الماضي، وازداد معها معدّل العيش في تلك المناطق. وفي الوقت نفسه، هناك عدد كبيـر من الأفراد (حوالي 700 مليون) يعانون فترات جفاف أطول من تلك المسجَّلة منذ خمسينيات القرن الماضي[14].
وخلال العقدين الماضيين، تجاوز معدّل فقدان الكتلة الجليدية العالمية 0.5 متـر مكافئ مائي سنويًّا، الأمر الذي أثَّر بدوره على البشر والنُّظُم البيئية، خاصة في نطاق الاستخدامات الثقافية للمياه بين المجتمعات الجبلية العالية والقطبية المُعرَّضة للخطر. وعلى صعيد الأحواض العالمية، شهدت طبقات المياه الجوفية عبـر المناطق المدارية تحسُّنًا عَرضيًّا يرجع إلى هطول الأمطار الشديدة والفيضانات، ولا شك أن استخدام المياه غيـر الواعي في بعض القطاعات تترتّب عليه آثار وأضرار بيئية ونتائج سلبية[15].
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أدى التغيّـر المناخي إلى زيادة احتمال وشدة تأثير حالات الجفاف (خاصة في الأراضي الزراعية والجفاف الهيدرولوجي) في العديد من المناطق؛ فبين عامَي 1970 و2019، تبيّن أن 7% من جميع الأحداث والكوارث في جميع أنحاء العالم مرتبطة بالجفاف، واستحوذت كوارث الجفاف على نحو 34% من نسبة الوَفَيات المرتبطة بالكوارث[16].
وعلى صعيد الزراعة، فقد تأثر الإنتاج الزراعي وإنتاج الطاقة بالتغيّرات في الدورة الهيدرولوجية؛ فبين عامَي 1983 و2009، شهد ما يقرب من ثلاثة أرباع المساحات المحصودة العالمية (نحو 454 مليون هكتار) خسائر ناجمة عن الجفاف الجوي مع خسائر في معدلات الإنتاج التراكمية بما يعادل 166 مليار دولار أمريكي.
وبالمثل، غالبًا ما تعتمد مجتمعات السكان الأصليين والمجموعات الأخرى ذات الدخل المنخفض، مثل صغار المزارعين، اعتمادًا كبيرًا على الموارد الطبيعية، بما في ذلك موارد المياه، وبالتالي فهي عُرضة بشكل غيـر متناسب للتغيّـرات في دورة المياه مع محدودية الإمكانيات المالية للتغلب على آثار الإجهاد المائي والتعافي منها (العبء غيـر المتكافئ الذي يفرضه التغيّـر المناخي على الفئات ذات الدخل المنخفض، مقرونًا بإمكانياتهم المحدودة للتكيّف)[17].
وبالمحصلة لا يزال تقييم جودة المياه الشامل والدقيق على المستوى الوطني لكل دول العالم يمثّل تحديًا، وهذا ما يُفسّر إدراج الأمم المتحدة هذا الأمر في أهدافها الـ17 للتنمية المستدامة للعالم؛ حيث وضعت الهدف رقم 6 لضمان التوافر والإدارة المستدامة للمياه والصرف الصحي للجميع[18]. ولا يزال مستوى معالجة مياه الصرف الصحي، الذي تمّ تقييمه من قِبَل منظمة الصحة العالمية باستخدام إحصاءات الصرف الصحي المنزلي، ضعيفًا للغاية (أقل من 30%) في أفريقيا وأجزاء كبيـرة من منطقة آسيا والمحيط الهادي، وضعيفًا (أقل من 50%) في معظم بلدان أمريكا الجنوبية.
لذلك، غالبًا لا تُتـرجَم كفاءة استخدام المياه إلى أمن مائي؛ حيث تتمتع العديد من الاقتصادات الوطنية التـي تهيمن عليها أنشطة البتـرول والتعدين بقيمة اقتصادية عالية لكل وحدة مياه مستخدمة (100 دولار أمريكي/ متـر مكعب أو أكثـر)، لكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة الأمن المائي في المكوِّنات الأخرى، مثل إدارة المياه أو الصرف الصحي أو النظافة الصحية.
ثانيًا: الجهود الدولية لمواجهة خطر التغيّر المناخي على الأمن المائي
لطالما كانت المياه هي أساس تحقيق الأمن الغذائي، والمساهم الأول في النمو الاقتصادي، وعامل تجديد النُّظُم البيئية، وتنمية الإنسان بشكل عام، فإن الحفاظ على معالجة المياه، وإدارة عمليات الاستهلاك والتوزيع باتا أمرَيْن ضروريين مع التغيّر المناخي الذي يضرب بقوة المياه الصالحة للشرب والغذاء.
يمكن أن تسهم المياه المُدارة بأمان، وتحسين ممارسات المياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية في المنازل والمدارس والأماكن العامة بشكل إيجابي في الحفاظ على صـحة الإنسان ونوعية الحياة، وتجعل المجتمعات أكثـر مرونة في التكيّف مع التغير المناخي[19]. وبالنظر إلى دور المياه في تقليل الانبعاثات الكربونية، نجد أن حوالي 20% فقط من مياه الصرف الصحي على مستوى العالم تتم معالجتها بشكل صـحيح. في حين تولِّد مياه الصرف الصحي غيـر المعالَجَة التـي يتم إطلاقها في البيئة، بصمةَ انبعاثات تقارب 3 أضعاف تلك الناتجة عن مياه الصرف الصحي نفسها المعالَجَة في محطة معالجة مياه الصرف الصحي التقليدية.
لذا، كان لزامًا على الدول أن تكرّس جهودها لمواجهة هذا التغيّر الجامح الذي يعصف بكل شيء، وقد حقّق عام 2022 تقدمًا مهمًّا في مكافحة التغيـر المناخي؛ حيث سنّت الولايات المتحدة أول تشريع خاص بالمناخ. وسيضـخُّ قانون الحد من التضـخم 369 مليار دولار أمريكي غيـر مسبوق من الإنفاق العام والائتمانات الضريبية، في الاقتصاد الأمريكي لتعزيز الطاقة النظيفة والبنية التحتية النظيفة والقدرة على التكيف مع المناخ خلال العقد المقبل.
وقد انتخبت أستراليا حكومة مؤيدة للعمل المناخي سرعان ما رفعت أهداف البلاد المتعلقة بالمناخ وسنَّت تشريعات لتتناسب معها. وفي البرازيل، دُشِّنت منصة تهدف إلى وقف إزالة الغابات في الأمازون. وفي الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف الذي عُقد في مصر، اتفقت الدول على تطوير ترتيبات تمويل جديدة يمكنها تعبئة الموارد لمساعدة الاقتصادات النامية التي تعاني بشكل مباشر، وغير متناسب، آثار التغيّر المناخي.
وعلى الرغم من عدم وجود مواعيد نهائية للتفاوض، فقد حدث تقدُّم ملحوظ في حقل العدالة المناخية في مؤتمر الأطراف السابع والعشرين؛ حيث تفاوضت البلدان بنجاح على اتفاق طال انتظاره لإنشاء مجموعة من ترتيبات التمويل، لتكون المحصلة هي صندوق “الخسائر والأضرار” الجديد للمساعدة في عمليات التعويض، خاصة للاقتصادات النامية التي تعاني الآثار المدمرة للتغيّر المناخي.
وعقب هذا، أطلقت الأمم المتحدة مبادرة “الإنذارات المبكِّرة للجميع”، التي تهدف إلى ضمان حماية كل شـخص على وجه الأرض من خلال التنبّؤ بالكوارث والتأهب والاستجابة لها في السنوات الخمس المقبلة. وفي الواقع تمّ تقدير الحاجة المُلحَّة لأنظمة الإنذار المبكِّر على نطاق واسع في الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف لدرجة أنها احتلت، لأول مرة، مكانة بارزة في قرار التغطية، المعروف باسم خطة تنفيذ شرم الشيخ.
وعلى المستوى المائي، يُعدُّ عام 2022 “العام المنصف للمحيطات”. فعلى مدى العام، احتل المحيط مقدمة الأجندات الدولية، لنشهد قمة المحيط الواحد في مدينة “بريست” بفرنسا، ومؤتمر “محيطنا” في جمهورية بالاو الميكرونيزية، ومؤتمر المحيطات التابع للأمم المتحدة في مدينة “لشبونة” بالبرتغال. وقد ناقشت تلك المؤتمرات الدور الحاسم الذي تؤديه المحيطات في دعم رفاهية الإنسان، من الأمن الغذائي إلى التكيّف مع المناخ والتخفيف من آثاره. وإدراكًا لذلك، تعهّدت الحكومات والشركات والجهات الفاعلة في المجتمع المدني بالتزامات وتعهدات لمواجهة مجموعة كاملة من تحديات المحيطات وتوفير مليارات الدولارات من التمويل اللازم للعمل في المحيطات[20].
إلى جانب ذلك، تضمّنت التوصيات الرئيسية لتلك المؤتمرات، تجديد الجهود الدولية لمكافحة الصيد غيـر المشروع، وحماية واستعادة النُّظُم الإيكولوجية البحرية والساحلية، وتعزيز العمل المناخي القائم على المحيطات، مثل إزالة الكربون عن الشحن البحري وزيادة الطاقة المتجددة البحرية.
وكان هناك أيضًا تركيـز على مواضيع المحيطات في عام 2022 في المنتديات العالمية “غيـر المحيطية” مثل منظمة التجارة العالمية؛ حيث اتفق الأعضاء على حظر الإعانات الضارة لمصايد الأسماك، وجمعية الأمم المتحدة للبيئة، التـي وافقت على بدء المفاوضات بشأن معاهدة عالمية مُلزمة لإنهاء التلوث البلاستيكي. كما عزّز مؤتمر الأطراف السابع والعشرون من “إضفاء الصبغة الزرقاء” على العمل المناخي، مع الالتـزام المتجدد بالحوار الرسمي بشأن المحيط / المناخ، بالإضافة إلى مئات الأحداث التي تركّز على المحيطات والأمن المائي[21].
ولا بد من التطرق إلى النهج القائم على النظام الإيكولوجي لإدارة المياه، الذي يوفّر استراتيجية فعالة للتكيف مع الآثار المحتمَلة للتغيـر المناخي على المياه، ففي حين أن تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية يثيـر مجموعة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية المعقَّدة، فإن مساهمة الحوكمة أمرٌ بالغ الأهمية. بشكل عام وخاص على حدٍّ سواء، فإن نجاح أو فشل أي استراتيجية تكيُّف قائمة على النظام الإيكولوجي مرهون بوجود ترتيبات حوكمة فعالة.
وتشير اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالتنوع البيولوجي لنهج النظام الإيكولوجي لعام 1993[22]؛ والخبـرة المكتسَبة من تطوير ترتيبات الحوكمة المتعلقة بالمياه في جميع أنحاء العالم، إلى أن مجموعة من المبادئ الرئيسية يمكن أن تدعم التكيّف مع التغيّـر المناخي القائم على النظام الإيكولوجي (يوضـحها الإطار رقم 1)، ولكن يجب أن تكون هذه المبادئ مَرِنة بما يكفي لاستيعاب خصوصيات السياقات المحلية المتنوعة. المبدأ الأساسي الشامل، هو أن الأنظمة البيئية يجب أن تُحكَم كوحدة طبيعية. وهذا يتطلّب إنشاء الترتيبات المناسبة على مستوى حوض النهر؛ نظرًا لأن أحواض الأنهار غالبًا ما تعبُـر الحدود السياسية، وتتطلّب ترتيبات الحوكمة العامة هذه أُطُرًا قانونية ومؤسسية فعالة يتم تبنّيها من قِبَل الدول التي تشترك في المورد نفسه.
ومع ذلك، يجب أن يأخذ النهج القائم على النظام الإيكولوجي أيضًا في الحسبان، الحاجةَ إلى اتخاذ قرارات على أدنى مستوى مناسب؛ لذلك هناك حاجة إلى تَآَزُر قوي بين ترتيبات الحوكمة القائمة على المجتمع واتخاذ القرار على المستوى الوطني أو الدولي (الحوض). وتوفّر الهياكل المؤسسية على مستوى الحوض، مثل المنظمات المشتركة لأحواض الأنهار، وسيلةً مهمة يتم من خلالها تنسيق القوانين والسياسات الدولية عبـر الحوض بأكمله. وتتمتع الآليات الفعالة لمشاركة أصـحاب المصلحة على المستوى المحلي والوطني والدولي بالعديد من الفوائد للمسؤولين الحكوميين في إدارتهم لموارد المياه، وزيادة المرونة والقدرة على التكيف مع التغيّر المناخي.

إطار: مبادئ اتفاقية التنوع البيولوجي لنهج النظام الإيكولوجي ونقاط التوجيه التشغيلي
المبدأ الأول: يتعلق بأهداف إدارة الأراضي والمياه والموارد الطبيعية باعتبارها مسألة اختيار مجتمعي.
المبدأ الثاني: يجب أن تكون الإدارة لامركزية إلى أدنى مستوى.
المبدأ الثالث: يجب على مُديري النظام البيئي النظر في الآثار (الفعلية أو المحتمَلة) لأنشطتهم على النُّظم البيئية المجاورة وغيرها.
المبدأ الرابع: مع الاعتراف بالمكاسب المحتمَلة من الإدارة، عادة ما تكون هناك حاجة لفهم وإدارة النظام البيئي في سياق اقتصادي. ويجب أن يقوم أيّ برنامج لإدارة النظام الإيكولوجي بما يلي: (أ) الحدّ من تشوهات السوق التي تؤثر سلبًا على التنوع البيولوجي. (ب) مواءمة الحوافز لتعزيز حفظ التنوع البيولوجي واستخدامه المستدام. (ج) دمج التكاليف والفوائد في نظام إيكولوجي معين إلى أقصى حد ممكن.
المبدأ الخامس: يشمل الحفاظ على النظام الإيكولوجي؛ الهيكل والأداء؛ من أجل الحفاظ على خدمات النظام البيئي، هدفًا ذا أولوية لنهج النظام الإيكولوجي.
المبدأ السادس: يجب إدارة النُّظم البيئية في حدود عملها.
المبدأ السابع: ينبغي اتباع نهج النظام الإيكولوجي على النطاقات المكانية والزمنية المناسبة.
المبدأ الثامن: التعرف على النطاقات الزمنية المتغيرة وتأثيرات التأخّر التي تميّز عمليات النظام البيئي، ويجب تحديد أهداف إدارة النظام البيئي على المدى الطويل.
المبدأ التاسع: يجب أن تدرك الإدارة أن التغيير أمرٌ لا مفرَّ منه.
المبدأ العاشر: يجب أن يسعى نهج النظام البيئي إلى تحقيق التوازن المناسب، والتكامل بين الحفاظ على التنوع البيولوجي واستخدامه.
المبدأ الحادي عشر: يجب أن ينظر نهج النظام الإيكولوجي في جميع أشكال المعلومات ذات الصلة، بما في ذلك المعارف والابتكارات والممارسات العالمية والمحلية.
المبدأ الثاني عشر: يجب أن يشمل نهج النظام الإيكولوجي جميعَ القطاعات ذات الصلة بالمجتمع والتخصصات العلمية.

يُعدُّ مفهوم الإدارة متعددة المستويات أمرًا محوريًّا في الإطار العالمي للمياه؛ حيث يتم دمج عملية صنع القرار المتـزامن بشأن إدارة المياه عبـر مختلف المستويات (الحكومية الدولية، وفوق الوطنية، والإقليمية، والمحلية)، وتعزيز صنع القرار على مستوى مناسب[23]. وفي هذا الصدد، وضعت الجماعة الأوروبية (EC) تشريعات وسياسات واسعة النطاق بشأن إدارة المياه، وقد أصدرت المزيد من التوجيهات السياسية بشأن التغيّـر المناخي وحماية النظام الإيكولوجي، ومن بين تلك التوجيهات ما يلي:
– توجيه معالجة المياه العادمة الحضرية لعام 1991.

– توجيه خاص بالنترات من الملوثات الزراعية لعام 1991.

– توجيه إطار المياه لعام 2000.

– توجيهات بشأن حماية المياه الجوفية من التلوث والتدهور، وتوجيهات بشأن معايير الجودة البيئية في مجال سياسة المياه.

– توجيهات الفيضانات لعام 2007، وتقرير ندرة المياه والجفاف لعام 2007، والكتاب الأبيض لعام 2009 بشأن التكيّف مع تغيّـر المناخ؛ ووثيقة المفوضية الأوروبية التوجيهية رقم 24 لإدارة أحواض الأنهار في مناخ متغيّـر لعام 2009، التـي تشمل الوثائق القانونية ذات الأهمية الخاصة بتوجيهات المفوضية الأوروبية بشأن الفيضانات، بينما تتضمن وثائق السياسة اتصال المفوضية الأوروبية بشأن ندرة المياه والجفاف.
لقد كان هدف المفوضية الأوروبية من إنشاء الإطار العالمي للمياه، هو دمج العديد من الأدوات المتعلقة بالمياه في سياسة مائية واحدة متماسكة، ويمكن اعتبار الإطار العالمي للمياه (WFD) مثالًا رئيسيًّا على نهـج تطلُّعي وشامل ومتكامل لإدارة المياه مع مُكوِّن أساسي قوي للنظام الإيكولوجي؛ لأنه يؤسس إدارة المياه على الطبيعة المتكاملة لدورة المياه والصلات المتبادلة مع استخدام المياه والأراضي، وتوفير حماية معزِّزة للنظام البيئي[24].
وتشمل أدوات السياسة الهامة لمعالجة إدارة المياه في أوروبا، اتفاقيةَ المياه التابعة للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا؛ حيث تُعدّ اتفاقية المياه بشأن حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود اتفاقية إقليمية للدول الأعضاء في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، واعتُمدت الاتفاقية في هلسنكي بفنلندا في عام 1992 وأصبحت نافذة في عام 1996. وفي عام 2003 وافقت الأطراف في الاتفاقية على تعديل الاتفاقية لتمكين أي دولة عضو في الأمم المتحدة من الانضمام إليها. وفي عام 2016 أصبحت الاتفاقية رسميًّا إطارًا قانونيًّا للتعاون بشأن المياه العابرة للحدود، ومتاحًا لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
رابعًا: التدابير الخليجية المرتبطة بالتكيّف مع التغير المناخي:
تُعَدّ المياه العذبة ثروة نادرة، وأصبح توافرها أكثـر صعوبة بسبب الضغط السكاني، وسوء الإدارة، والتغيّـر المناخي، وتُعَدُّ مياه البحر المحلَّاة موردًا شديد الأهمية بالنسبة إلى توفير احتياجات سكان دول الخليج العربية، والاقتصادات الحديثة التـي أصبحت تعتمد على التحلية، وفي حال حدوث انقطاع إمدادات المياه لفتـرات طويلة، فإن ذلك سيترك عواقب خطيـرة. وبناء عليه، فإنه على مدى العقدين الماضيين، اتخذت دول مجلس التعاون الخليجي تدابير عدّة للتقليل من الانبعاثات، والتكيّف مع التغيّـر المناخي، مثل: الابتكارات التكنولوجية، ورفع كفاءة الطاقة، والتحديث والتفكيـر في استخدام الطاقة النووية. وعلى سبيل المثال، تهدف دولة الإمارات من خلال المبادرة الاستراتيجية للحياد المناخي 2050 إلى الانتقال نحو اقتصاد أخضر يعتمد في 50% من استهلاكه على الطاقة النظيفة بحلول عام 2050، كما تهدف إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 35.5% بحلول عام 2030. كما تعهدت السعودية في تقرير المساهمة المحددة وطنيًّا بأن تمثل مصادر الطاقة المتجددة 50% من مزيج الطاقة بحلول عام 2030، وأن تصل إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060، وأن تقلل نمو انبعاثات الميثان العالمي بنحو 30% بحلول عام 2030. والتزمت سلطنة عُمان في تقرير المساهمة المحددة وطنيًّا بأن تتجه نحو اقتصاد أقل اعتمادًا على الكربون وقائم على الطاقة المستدامة، على أن تُخفّض انبعاثات الكربون بنحو 7% بحلول عام 2030. وتعهدت قطر عبـر تقرير المساهمة المحددة وطنيًّا بتقليل انبعاثات الكربون بنحو 25% بحلول عام 2030 وفقًا لاتفاقية باريس. وتأتي بعض المبادرات، مثل الخطة الوطنية لكفاءة الطاقة لدعم هذه الأهداف. وتشترك الكويت في مشروعات استراتيجية لخفض انبعاثات الكربون، وتستهدف خفض الانبعاثات بنسبة 7.4% بحلول عام 2035.
وبالإضافة إلى ما سبق، اعتمدت دول مجلس التعاون الخليجي عددًا من الاستراتيجيات المختلفة لمواجهة آثار التغيّر المناخي على موارد المياه، منها:
· تحلية المياه: زيادة الاعتماد على التحلية من أجل توفير المياه وتقليل آثار موجات الجفاف وندرة المياه.
· تخزين المياه: الاستثمار في البنية التحتية مثل السدود والخزانات لتخزين المياه للمستقبل في فتـرات الندرة.
· الحفاظ على المياه: تنفيذ تدابير، مثل قياس الاستهلاك والتسعير وتقليل التسرب للحفاظ على المياه.
· الطاقة المتجددة: الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
· إعادة الاستخدام وإعادة التدوير: تأسيس مبادرات للتشـجيع على إعادة تدوير المياه وإعادة استخدامها لتقليل الهدر.
· الزراعة الذكية مناخيًّا: اعتماد سياسات، مثل: تنويع المحاصيل، وزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، واستخدام أنظمة الري الموفِّرة للمياه، والحفاظ على التربة بغرض زيادة الإنتاجية، وتقليل استهلاك المياه.
· الهندسة الجيولوجية: جرّبت بعض دول مجلس التعاون الخليجي استمطار السُّـحب لزيادة إمدادات المياه، ولكن فاعلية هذه التقنية وتأثيرها على البيئة لا يزالان محل الدراسة.
خامسًا: قضايا الأمن المائي في الوقت الراهن
باعتبار المياه هي “الرابط المناخي” الذي يوفّر فرصًا للتعاون عبـر تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) وأهداف اتفاقية باريس بشأن المناخ لعام 2015، وإطار سنداي بشأن الحد من مخاطر الكوارث. فإن الإدارة المستدامة للمياه -التي تعدُّ جزءًا أساسيًّا من التكيف مع عالم أكثـر دفئًا، وبناء القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي- تتضمن عملية حوكمة للمنظمات والأفراد على المستويين الدولي والمحلي في العالم، وتشمل أيضًا جميع التخصصات والقطاعات ذات الصلة بالمياه.
في هذا السياق، إشكالية المياه وتشعباتها ستنال النصيب الأكبـر من الاهتمام العالمي، فقد أصبحت دوافع النـزوح البشري أكثـر تعقيدًا، لتشمل المخاوف المتصاعدة النابعة من تأثير التغيّـر المناخي. وستكون شدة الكوارث الناجمة عن المناخ والهجرة المرتبطة بالمناخ موزَّعة بشكل غيـر متساوٍ عبـر المكان والزمان، ويقدِّر البنك الدولي أن حوالي 140 مليون شـخص سيتم تهجيـرهم على مستوى العالم لأسباب تتعلق بالمناخ بحلول عام 2050، ومن المتوقَّع أن تكون تداعيات التغير المناخي واضحة بشكل خاص في القارة الأفريقية؛ حيث ترتفع درجات الحرارة، وسيستمر هطول الأمطار المفاجئة التي يصعب التنبؤ بها، وضعف الاستقرار السياسي في ظل وجود أخطار طبيعية شديدة، ما يتسبب في تفاقم الصراع والإضرار بالأمن البشري والاقتصادي والبيئـي؛ المحلي والإقليمي[25].
تجدر الإشارة هنا إلى أن منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة البعلية والرعي، ما يعنـي أن سُبل العيش والأمن الغذائي يرتبطان ارتباطًا وثيقًا ويتأثران على المدى الطويل بالتغيرات البيئية المفاجئة والمخاطر الطبيعية؛ فقد تسببت الأخطار الطبيعية في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي في السنوات الأخيـرة بتزايد معدلات الجوع والنـزوح وفقدان البنية التحتية الحيوية وسُبل العيش وارتفاع نسبة الوفَيات[26].
تشير كذلك التوقعات المناخية إلى أن التغيّـرات البيئية من المحتمَل أن تؤدي إلى انخفاض توافر المياه، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وزيادة انتقال الأمراض في المنطقة؛ ما ينتج عنه تداعيات معقَّدة فيما يتعلق بالصراعات الداخلية والإقليمية والتنمية الاقتصادية والسياسية ومعدلات الهجرة.
ولا شك أن مؤتمر الأمم المتحدة السنوي للتغيـر المناخي هو المنصة النهائية للانضمام إلى قادة العالم والعلماء وأصحاب المصلحة. ومع تضاعف تحديات ندرة المياه وإدارتها، ولاسيما في الشرق الأوسط ومساحات شاسعة من أفريقيا، هناك زخمٌ متزايد لإعطاء الأولوية للمياه في العمل المناخي؛ لذلك خلصت إحدى جلسات مؤتمر الأمم المتحدة للمياه التي عُقدت في مارس 2023 بتوصية، مفادها ضرورة اتخاذ إجراءات لمعالجة العلاقة بين المياه والمناخ، وتسريع العمل المناخي في هذا المجال. وأفادت دولة الإمارات المتحدة بأن مجموعة واسعة من القطاعات تتعامل مع قضايا المياه المُلحَّة، بدءًا من الندرة إلى الأحوال الجوية القاسية، وأن هناك فرصًا للعمل لتخفيف الآثار المستقبلية.
تتمثل القضية الأولى في نقل المياه، أو حالة البنية التحتية. الأمر الذي يُنذر بالحاجة إلى عمليات صيانة إضافية بسبب التغيـر المناخي. أما القضية الثانية فإنها تتجسد في جودة المياه، التي من المتوقَّع أيضًا أن تزداد سوءًا، وقد تؤدي إلى تفشي الأمراض في جميع أنحاء المنطقة[27].
لن يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك أيضًا قضية ثالثة، وهي المنافسة بين القطاعات المختلفة، ولاسيما أن القطاع الزراعي يعتبـر في بعض المناطق أكبـر مستخدم للمياه، الأمر الذي يزيد من عمليات الاستيلاء على الأراضي والمياه من قِبَل الشركات والحكومات بطريقة شائعة. أما الوضع في القطاع الصناعي فهو معقَّد أيضًا لأن العديد من الشركات قد تعمل لفترة طويلة خالية إلى حدٍّ كبير من اللوائح والضوابط[28].
وتأسيسًا على ما تقدّم في الجهود الدولية، فمن بين القضايا المطروحة على طاولة النقاش أيضًا، الحلول القائمة على الموارد المائية والأمن الغذائي واستقرار الطاقة في عام 2023. وقد يشمل ذلك العمل في المنظمة البحرية الدولية (IMO) لتسريع إزالة الكربون عن قطاع الشـحن العالمي، فضلًا عن دفعة متجددة من الحكومات في جميع أنحاء العالم لتطوير مصادر طاقة نظيفة قائمة على المحيطات، مثل الرياح البحرية وتحويل الطاقة الحرارية للمحيطات في دول المحيط الكبيرة في المحيط الهادي[29].
سادسًا: استشراف مستقبل الأمن المائي في ضوء التغيّر المناخي وخارطة طريق للحل
من المرجَّح أن يرتفع الطلب العالمي على المياه في العقود القليلة القادمة، وسيؤدي النمو السكاني السريع إلى زيادة الاستهلاك على مستوى الأفراد والأعمال. ومع ارتفاع ظاهرة الهجرة الداخلية ستزداد معدلات إجهاد الإمدادات. ومن المتوقَّع أيضًا أن يؤدي التغيـر المناخي إلى جعل بعض المناطق أكثر جفافًا، وبعضها الآخر أكثـر رطوبة. ومع زيادة هطول الأمطار في بعض المناطق، ستواجه المجتمعات المتضرِّرة تهديدات أكبـر من الجفاف والفيضانات[30].
في حين أن تغييـر العرض والطلب على المياه أمرٌ لا مَفرَّ منه، فإن الشكل الذي سيبدو عليه هذا التغييـر في جميع أنحاء العالم ليس مؤكَّدًا على الإطلاق. ويلقي التحليل الأول من نوعه، الذي أجراه معهد الموارد العالمية، ضوءًا جديدًا على هذه القضية. وباستخدام مجموعة من النماذج المناخية والسيناريوهات الاجتماعية والاقتصادية، سـجَّل معهد الموارد المائية وصنّف الإجهاد المائي المستقبلي -وهو مقياس للمنافسة واستنفاد المياه السطحية- في 167 دولة بحلول أعوام 2020 و2030 و2040. وجاءت النتائج بأن نحو 33 دولة ستواجه إجهادًا مائيًّا مرتفعًا للغاية في عام 2040، كما يوضـح الشكل رقم (5). كما ستعاني تشيلي وإستونيا وناميبيا وبوتسوانا خاصة من إجهاد مائي قاسٍ بحلول العام نفسه، وهذا يعني أن الشركات والمزارع والمجتمعات في تلك البلدان ستكون أكثر عُرضة للندرة المائية، مقارنة بالوضع الحالي.

شكل (5) الإجهاد المائي بحسب الدولة بحلول عام 2040

ومن المتوقَّع أن يؤثر التغيّـر المناخي على جودة المياه في كل من المناطق الداخلية والساحلية، على وجه التحديد. ومن المتوقَّع أيضًا أن يحدث هطول الأمطار بشكل متكرر أكثر من خلال هطول الأمطار عالية الكثافة؛ ما يؤدي إلى زيادة الجريان السطحي وعمليات التعرية. وبالتالي سيتم نقل المزيد من الرواسب والجريان السطحي الكيميائي إلى مجاري المياه وأنظمة المياه الجوفية، الأمر الذي سيُضعف جودة المياه. وقد تتأثر جودة المياه بشكل أكبر إذا تسبّب النقص في إمدادات المياه بزيادة تركيز العناصر الغذائية والملوثات[31].
وسيؤثر ارتفاع درجات حرارة الهواء والماء أيضًا على جودة المياه عن طريق زيادة الإنتاج الأولي، وتحلّل المواد العضوية، ومعدلات تدوير المغذيات في البحيـرات والجداول، ما يؤدي إلى انخفاض مستويات الأكسـجين المُذاب. وستشكّل البحيرات والأراضي الرطبة المرتبطة بالتدفقات العائدة من الزراعة المروية مصدرَ قلق.
ويمكن أن يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر أيضًا إلى تقليل جودة المياه وتوافرها في المناطق الساحلية، وتتـراوح التوقعات الحالية لارتفاع مستوى سطح البحر بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين من 19 إلى 58 سم. ومن الممكن حدوث زيادة دراماتيكية في مستوى سطح البحر، بترتيب الأمتار بدلًا من السنتيمترات، لكن معظم الباحثين يعتبرونها مخاطرَ احتمالية منخفضة. فعلى سبيل المثال، الذوبان الكامل للغطاء الجليدي في جرينلاند، أو الغطاء الجليدي في غرب أنتاركتيكا، من شأنه أن يؤدي إلى مثل هذا الارتفاع الكبيـر. ويمكن أن يؤثر ارتفاع مستويات سطح البحر على جودة المياه الجوفية بشكل مباشر عن طريق تسرّب المياه المالحة.
كما أن التغيرات الجذرية في هيدرولوجيا المياه العذبة في المناطق الساحلية، والناجمة عن تسرب المياه المالحة، من شأنها أن تهدّد إمدادات المياه العذبة في العديد من المناطق الساحلية. فضلًا عن ذلك، سيؤدي نقص المياه إلى ارتفاع سعرها، ويمكن أن تؤثر الزيادة الكبيـرة في الأسعار على مدى ونمط النمو الحضري في جميع أنحاء العالم. كما ستصبح مشروعات إمدادات المياه المكلفة، مثل محطات تحلية المياه وخطوط الأنابيب والسدود، أكثر جاذبية من الناحية الاقتصادية[32].
على الجانب الآخر، تعمل القوى الكُبـرى العالمية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وغيرهما على مواجهة مخاطر المياه. إلا أنه من المتوقَّع أن يظل الإجهاد المائي المرتفع في تلك البلدان ثابتًا حتـى عام 2040. وهناك توقّعات باحتمالية أن تشهد مناطق معينة في كل منهما، مثل جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية ومقاطعة نينغشيا الصينية، زيادةً في الإجهاد المائي بنسبة تتراوح من 40% إلى 70%[33].

الخاتمة

إذا كانت هناك رغبة في الحد من تداعيات التغيّـر المناخي، فهناك حاجة أيضًا لأن يكون هناك جدول أعمال دولي مشترَك بشأن تأثيرات المناخ، وإطار عمل للتمويل الدولي، وبيئة عالمية تتيح الابتكار السريع، وهذا مطلب شامل، لأننا نتعامل مع أكبـر وأهم التحديات العالمية. وفي جانب التأثير المناخي على الأمن المائي يمكن النظر في بعض النقاط التي قد تسهم في معالجة المشكلة، والتي تتمثل في التوصيات الآتية:
– من خلال المعالجة المناسبة لمياه الصرف الصحي، يمكن إزالة الملوِّثات وغاز الميثان، ويمكن التقاط غازات الدفيئة واستخدامها كمصدر للطاقة.
– إعادة استخدام المياه العادمة نفسها لأغراض الري وتنسيق الحدائق وأغراض أخرى، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل الطاقة المستخدَمة في نقل المياه ومعالجتها، ما يؤدي إلى تقليل حجم الانبعاثات.
– يمكن لمقدِّمي خدمات المياه تحقيق انبعاثات صافي الصفر من خلال إنشاء كيان مسؤول عن إدارة ومعالجة مياه الصرف الصحي، وضبط تقنيات معالجة مياه الصرف الصحي واستخدام مُدخلات محايدة الكربون في عملياتهم.
– بالنسبة إلى انبعاثات الخدمات المائية من تصنيع المضـخات والمعدّات الأخرى والسفر واستخدامات الأفراد للمياه، يمكن لمقدِّمي خدمات المياه وضع معايير للمشتريات والسعي للتأثير على سلوك العملاء لاستخدام المياه بحكمة وتقليل هدرها.
– التركيـز على أهمية تبادل المعرفة كأداة لإيصال أهمية الأمن المائي إلى المجتمعات وتطوير حلول لمعالجة مشكلات المياه المتعلقة بكثرة الفيضانات، والجفاف، والمياه غير المأمونة.

المصدر : تريندز للبحوث والاستشارات